ذات ليلة من ليالي الشتاء القارص و تحديدا الليلة التاسعة و العشرون من شهر أكتوبر سنةألف و تسعمائة و ست و خمسون كنت و أخوتي محمد و ممدوح مستغرقين في نوم عميق بالصندلة أعلي المطبخ و هي مكان خصص لحفظ و تخزين المواد التموينية و الأغذية الجافة ، إذ استيقظنا علي صراخ و صوت نينا ينادي علينا بالنزول سريعا من الصندلة فلقد داهمت بلدتنا غارة جوية بأعداد كبيرة من الطائرات و أخذت أصوات الأنفجارات تتوالي و صوت رعد أزيز الطائرات فأسرعنا بالنزول محمد و ممدوح و تبعتهم مسرعا ناسيا مسمار السقف الذي يربط به باب الصندلة فمزق جنبي الأيمن بجرح قطعي عميق و نزف دمي و أنا أصرخ و أبكي ،تلقتني نينا في صدرها و أخذت تنادي علي ستي :الحقينا محمود بينزف دم كثير أسرعت ستي نحونا و أخذتني من نينا و طلبت منها احضار البن فورا حيث وضعت كمية كبيرة منه علي الجرح فتوقف الدم ثم مزقت فانلة بيضاء لتربط علي الجرح ،ثم تجمعنا في حجرة داخلية حتي لا يظهر ضوء اللمبة الجاز إذ كان الظلام حالكا بالداخل و الخارج كتعليمات الغارات الجوية .و بدأ الجيران يتوافدون علينا من الأدوار التي تعلونا فلقد كان بيتنا بالدور الأرضي و رغم تجمع عدد كبير من الناس داخل بيتنا إلا أني كنت أشعر بخوف شديد من صوت الطائرات و الأنفجارات المتتالية و كان الجميع في هلع و خوف و النساء يبكين ، بعد فترة و جيزة عاد أبتي من الخارج و فهمت من كلامه للجميع أن الأعداء قاموا بعمليات إبرار قوات علي شاطئ البحر الذي يبعد عن بيتنا حوالي مائتي متر و كذلك عند مطار الجميل و الجبانات و قد قرر أبتي إخلاء البيت فورا و ذلك لإشتعال النيران بالدور و المنازل و البيوت المجاورة بل و في الحي بكامله.
خرجنا جميعا بملابس النوم و وقفنا نرتجف في العراء أمام البيت إنتظارا لتجمع كل أفراد العائلة كي نغادر الحي إلي حي العرب حيث كان أكثر أمنا و بعدا عن الأعداء و عزم أبتي الذهاب إلي بيت عمه له بحي العرب و في هذه الأثناء دوى صوت إنفجار هائل في بيتنا الذي سرعان ما أشتعلت فيه النيران و أحاطت به و آتت عليه كاملا بكل ما فيه ،و لم تبارح ذاكرتي رغم مرور أثنان و خمسون عاما صورة عمتي هانم و هي تبكي في لوعة علي هذا المشهد فلقد كانت علي و شك الزفاف و أحترق جهازها و أثاث بيتها كاملا داخل بيتنا ..